بعد تمرد “يِفجيني بريجُوجِين”: هل ينتهي دور “فاجنر” في إفريقيا؟
كان الفراغ الكبير الذي أحدثه جلاء الاستعمار الغربي التقليدي عن إفريقيا أواسط القرن الماضي فرصةً سانحة لتغلغل روسيا في إفريقيا؛ انطلاقًا من نظرية “الإخلاء” Evacuation، أو “ملء الفراغ” Filling the Void، وكانت “الأيديولوجيا” Ideology -في حينه- بمثابة المدخل الرئيس لهذا التغلغل؛ حيث انتشرت نماذج شتى من الاشتراكية في جُلّ بلدان القارة، ومع انتهاء الحرب الباردة وتفكُّك الاتحاد السوفييتي، انحسر المد الروسي عن القارة، وهو ما أتاح للنفوذ الغربي أن يعود مرة أخرى إلى الانتشار في أرجاء القارة.
وفي مستهل الألفية الثالثة، شرعت روسيا تتحين الفرص للعودة إلى إفريقيا، وما أن بدأت بعض الفراغات تظهر في الفضاء الإفريقي مرة أخرى؛ بسبب القصور الغربي في إشباع الحاجات الإفريقية المتنامية؛ حتى انْقَضَّت روسيا علي هذه الفراغات تملؤها مستخدمةً نفس النظرية، لكن بالتركيز هذه المرة على عدة مداخل مختلفة، لم تكن “الأيديولوجيا” من بينها.
وبإمعان النظر في مفردات السياسة الخارجية الروسية المعاصرة تجاه إفريقيا؛ نجد أنها ركزت بشكل رئيس في عودتها إلى الفضاء الإفريقي على المدخل العسكري. ومما دعاها إلى التركيز على هذا المدخل: تنامي الطلب الإفريقي على خدمات التسليح والتدريب والأمن، وتراجع معدلات الحصول على هذه الخدمات من الغرب؛ بسبب ارتفاع تكلفتها، أو ربطها بمشروطيات سياسية واقتصادية واجتماعية لا تروق للأفارقة.
ولإشباع الطلب الإفريقي على هذه الخدمات سلكت روسيا طريقتين؛ أولاهما: الطريقة الرسمية، وتمثلت في التعاملات المشروعة والتواصل الرسمي بين المؤسسات الروسية الرسمية والفاعلين الرسميين من الجانب الإفريقي. والأخرى: الطريقة غير الرسمية، وتمثلت غالبًا في التعاملات غير المشروعة، وتضطلع بها الشركات الأمنية الخاصة، وفي مقدمتها مجموعة “فاجنر” Wagner، الذراع العسكرية الروسية الطولى “للمهام القذرة” Dirty Jobs، وتتعامل “فاجنر” في هذا الشأن في كل المجالات، ومع كل الفاعلين الأفارقة، سواءٌ مع الجهات الرسمية في الدولة أو مع الجهات الخاصة المستقلة.
وقد اعتمدت روسيا في تنفيذ سياستها الخارجية تجاه إفريقيا على شركة “فاجنر”، وهي أكبر شركة أمنية روسية خاصة، وقد أجمعت التقارير على أنها وثيقة الصلة بوكالة الاستخبارات العسكرية الخارجية، التابعة لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية. وقد توسعت هذه الشركة حتى أصبحت مجموعة كبيرة مكونة من عدة شركات، وتعمل هذه الشركات في العديد من المجالات التخصصية المُكمِّلة لأنشطة “فاجنر” الأم، ومن هنا أصبحت “فاجنر” ركيزة أساسية من ركائز السياسة الخارجية الروسية تجاه إفريقيا، وقد تعاظم دور “فاجنر” في إفريقيا بما لا تخطئه عين في شتى المجالات، وبخاصة في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية.
وفي تطور دراماتيكي، أعلن “يِفجيني بريجُوجِين” Yevgeny Prigozhin قائد مجموعة “فاجنر” -يوم الجمعة الموافق 23 يونيو 2023م- التمرد على الجيش الروسي، وانسحاب قواته من جبهات القتال في أوكرانيا، وبدء الزحف نحو موسكو.
وعلى الفور أعلن الكرملين أنه تم اتخاذ “الإجراءات اللازمة” ضد هذا التمرد، وأن السلطات الروسية عززت الإجراءات الأمنية في موسكو وفي عدة مناطق، فيما اعتبر الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” Vladimir Putin تمرد “فاجنر” بمثابة “خيانة”، ووصفه بـ”التهديد القاتل”، مؤكدًا أن المتمردين “سيُعاقبون حتمًا”، وحذَّر “بوتين” من خطر “الحرب الأهلية”، وحثّ البلاد على الوحدة.
وبعد 24 ساعة تقريبًا، وبشكل أكثر دراماتيكية، أعلن “يفجيني” وقف الزحف نحو موسكو وإنهاء التمرد، ثم تسارعت الأحداث؛ من بدء تحقيق روسي موسع مع قائد “فاجنر”، إلى توسُّط الرئيس الـ “بيلاروسي” “ألكسندر لوكاشينكو” Alexander Lukashenko بين “يفجيني” و”بوتين”، ما أدى إلى انتقال “يفجيني” إلى بيلاروسيا.
وقد صاحَب هذه الأحداث المتلاحقة حالة مستحكمة من اللايقين، ما أثار عددًا كبيرًا من التحليلات والتقديرات، في محاولة لفهم حقيقة ما حدث، واستشراف مآلاته وتأثيراته وانعكاساته على الجميع، وعلى كافة المستويات، وفي كل المجالات حول العالم. ومن هنا، وفي هذا الإطار؛ تستشرف هذه الورقة مستقبل الدور الذي تقوم به “فاجنر” الروسية في إفريقيا بعد تمرُّد “يِفجيني بريجُوجِين”، عبر المحاور التالية:
البيئة الإفريقية مهّدت الطريق أمام قوات “فاجنر”:
تتسم البيئات الاجتماعية الإفريقية بالتنوع الإثني الشديد، في الوقت الذي أخفقت فيه جُلّ الأنظمة الحاكمة في إدارة هذا التنوع، ما أدَّى إلى نشوب الكثير من الصراعات المستدامة، والتي لا تكاد تخبو حتى تتأجج، ولا تكاد تخمد حتى يُشْعَل غيرها، فكانت هذه البيئات الصراعية بمثابة الثغرة المُثْلَى لتسلل “فاجنر” إلى الفضاءات الإفريقية، وكان الصراع في ليبيا أول مُستقبِل لنشاط “فاجنر”، بالتزامن مع الصراع في إفريقيا الوسطى، ثم الصراعات في السودان وموزمبيق ومالي، وعلى مدار خمس سنوات مضت ساعدت هذه البيئة الإفريقية الصراعية “فاجنر”، على ترسيخ أقدامها في الدول الإفريقية التي تُمزّقها الصراعات.
المطامع الروسية في إفريقيا، وطبيعة وحدود وأهمية دور “فاجنر” في تحقيقها:
يلبّي الوجود الروسي في إفريقيا حزمة كبيرة من المطامع الروسية الحيوية والكبرى. ومن أهم هذه المطامع؛ أولها: التمركز في المناطق الجيوستراتيجية الأكثر أهمية عالميًّا، والتي يوفرها الموقع الجغرافي الفريد للقارة. وثانيها: تحصيل أكبر قدر ممكن من الثروات الطبيعية الإفريقية الهائلة. وثالثها: تعزيز النفوذ السياسي الروسي في النظام الدولي الجديد الآخذ في التشكل.
ومن هنا يمكننا القول بأن اختيار مناطق تمركز وانتشار “فاجنر” الروسية في إفريقيا لم يكن عشوائيًّا، بل كان اختيارًا مدروسًا بدقة، وهو ما سوف يؤكده رصد مناطق تمركز وانتشار المجموعة في عدة دول إفريقية، وتحليل مهامها وعملياتها في هذه الدول فيما يلي.
ليبيا: تطويق حلف الناتو من الجنوب، واحتياطات طاقوية هائلة
لم يكن أكثر المتفائلين في روسيا يتطلع إلى تطويق حلف الناتو من الجنوب، حتى سنحت فرصة الدخول إلى الأراضي الليبية كطرف فاعل في الصراع الليبي؛ فوجود قوات روسية في ليبيا قبالة السواحل الجنوبية الأوروبية، في منتصف البحر الأبيض المتوسط، يُمثِّل هدفًا استراتيجيًّا بالغ الأهمية بالنسبة لروسيا، هذا فضلاً عن وفرة النفط والغاز؛ حيث تمتلك ليبيا تاسع أكبر احتياطات نفط حول العالم، وأكبرها في إفريقيا، وتمتلك حوالي (53) تريليون قدم مكعب من احتياطيات الغاز المؤكدة بحسب تقديرات عام 2017م.([1])
وكانت ليبيا قد دخلت في حرب أهلية في أعقاب سقوط الرئيس معمر القذافي ونظامه؛ إثر احتجاجات ومظاهرات عمت البلاد في فبراير 2011م، وكان من أهم سمات الصراع الليبي على المستوى الداخلي: انهيار القوات المسلحة والشرطة، وانتشار السلاح على نطاق واسع، وانقسام وتشظّي المجتمع الليبي إلى ميليشيات متناحرة، وعلى المستوى الخارجي: كثرة الفاعلين الدوليين والإقليميين المتدخلين في الصراع، واعتماد الفاعلين الداخليين على الدعم المادي والمعنوي الذي يتلقونه من الخارج.
وتذكر بعض التقارير أن جانبًا من قوات الشركات الأمنية الخاصة، قد صاحبت القوات الروسية الخاصة إلى ليبيا مبكرًا عام 2015م؛ دعمًا من “الكرملين” لما أُطْلِقَ عليه “الجيش الوطني الليبي” بقيادة الجنرال خليفة حفتر، ثم توالى وصول قوات “فاجنر” لاحقًا أواخر عام 2017م.
وعلى الجانب العسكري؛ اشتركت قوات “فاجنر” في العمليات القتالية، جنبًا إلى جنب مع قوات حفتر، ونشرت مقاتلين وقنَّاصة، وقامت بتجنيد مرتزقة أجانب، وأقامت قواعد عسكرية، وقامت بتدريب قوات جيش حفتر، وسهلت نقل الأسلحة، وأقامت حواجز من الفخاخ والألغام الأرضية. وتشير بعص التقارير إلى حدوث خلاف بين حفتر و”فاجنر”؛ بسبب عجزه عن دفع الأموال المتفق عليها عند تعاقده معها.([2])
أما على الجانب الاقتصادي؛ فقد تضمّنت استراتيجية “فاجنر”، احتلال حقول النفط الليبية الرئيسة؛ لمنع بيع النفط، والذي يمكن أن يساعد في تمويل حكومة الوفاق الوطني، وحاولت “فاجنر” الحصول على حصة من مبيعات النفط الليبي على غرار ما فعلته في سوريا.([3])
وتذهب بعض التقارير إلى أن “فاجنر” تحافظ على وجود كبير في ليبيا حتى الآن؛ حيث يُقدَّر بأعداد تتراوح بين عدة مئات وألفين من القوات والعملاء، وأنها تتأهب للتدخل في الانتخابات الليبية لصالح حفتر.([4])
إفريقيا الوسطى: مركز انطلاق من قلب إفريقيا إلى أطرافها، ومصدر ضخم للذهب والألماس
لم تضرب “فاجنر” بأطنابها في إفريقيا الوسطى خبط عشواء، فعلى الصعيد العسكري كان الموقع الجغرافي لإفريقيا الوسطى أول المطامع الروسية؛ حيث تتوسط هذه الدولة القارة الإفريقية؛ ما يجعلها قاعدة تمركز نموذجية، يمكن الانطلاق منها بسهولة باتجاه الأقاليم الإفريقية الخمسة. أما على الصعيد الاقتصادي فقد كانت وفرة الموارد الطبيعية المعدنية، وفي مقدمتها الذهب والألماس ثاني المطامع الروسية، وقد ساعدت البيئة الصراعية للدولة، والإخفاق أو الإحجام الفرنسي والأممي عن تلبية مطالبها العسكرية والأمنية، على الولوج الروسي السَّلِس إلى الفضاء الهشّ لهذه الدولة، التي كانت منطقة نفوذ تقليدي للمستعمر الفرنسي.([5])
وتدور رحى الصراع في إفريقيا الوسطى منذ 2012م لأسباب سياسية واقتصادية، وتطوَّر الصراع إلى حرب أهلية حاول البعض صَبْغها بصبغة دينية، لكنها كانت أكثر تشابكًا وتعقيدًا من أن يتم حَصْرها في الإطار الديني، ولا يزال الصراع مذ بدأ وحتى الآن يخمد قليلاً، ثم يعاود نشاطه أشد مما كان، وتتعدد أطرافه ما بين السلطات الحالية، وعلى رأسها الرئيس “فوستان أرشانج تواديرا” Faustin-Archange Touadéra، والحكومة، والجيش، وبعض المجموعات المسلحة الموالية للجيش، مدعومين بقوات تابعة لـ “فاجنر”، ومجموعات “سيليكا” ، ومجموعات “أنتي بلاكا”، ومجموعات متمردة مسلحة تابعة للرئيس السابق “فرنسوا بوزيزي” Francois Bozize، ومجموعات من العاملين في المناجم، مع استمرار وجود قوات من بعثة “مينوسكا” MINUSCA الأممية.([6])
ولا يعنينا -والحال كذلك- تحليل الصراع تحليلاً مفصلاً، بقدر ما يعنينا بيان شدة تشابكه وتعقيده، ورصد أهم دينامياته، بالتركيز على الدور الذي تلعبه قوات “فاجنر” هناك منذ أواخر عام 2017م، والذي يتمثل في تقديم كافة خدمات الدعم العسكري للنظام الحاكم، بما في ذلك التأمين، والتسليح، والتدريب، والاستخبارات، والتخطيط، والإشراف على العمليات، والمشاركة في بعضها. ومن جهة أخرى عيَّن الرئيس “تواديرا”، “فاليري زاخاروف” Valery Zakharov المسؤول السابق في المخابرات العسكرية الروسية، مستشارًا للأمن القومي، ويهدف “تواديرا” من ذلك إلى تأمين بقاء نظامه وحمايته وقمع معارضيه.([7])
وقد كانت الموارد الطبيعية ثمنًا باهظًا لهذه الخدمات؛ حيث حصلت شركة “لوباي إنفست”Lobaye Invest، وهي إحدى شركات التعدين التابعة لمجموعة “فاجنر”، على حقوق التعدين في (7) مناجم للذهب والماس، فضلاً عن التنقيب عن المعادن الأخرى، وهو نشاط اقتصادي واسع النطاق يُؤمِّن لروسيا الحصول على الموارد والمواد الخام.([8])
السودان: موطئ قدم على مدخل باب المندب وقناة السويس، وأضخم مناجم الذهب والألماس
تعد السودان بمثابة الكعكة الكبرى التي يتصارع عليها كثيرٌ من القوى الدولية والإقليمية، بل ودول الجوار أيضًا، فالمسيطر على السودان -فضلاً عن استحواذه على سلة غذاء العالم-؛ يستحوذ على احتياطيات هائلة من البترول والذهب واليورانيوم، وغيرها من المعادن، كما يمكنه أيضًا -وهو الأهم- التأثير مباشرة وبقوة على الملاحة البحرية عبر الممر الأكثر أهمية عالميًّا (باب المندب – البحر الأحمر – قناة السويس)، وعلى مياه نهر النيل المتدفقة لمصر.
وقد كانت العُزلة والعقوبات الغربية، والأزمات والصراعات التي واجهها نظام البشير الحاكم في السودان، عاملاً مهمًّا أحدث تقاربًا كبيرًا بين هذا النظام وبين روسيا؛ فقد جرى التعاون بينهما منذ أواخر عام 2017م على قدم وساق في عدة مجالات حيوية، ففي المجال العسكري تم توقيع عدة اتفاقيات لشراء الأسلحة الروسية، والتدريب العسكري، وتبادل الخبرات، ودخول السفن الحربية إلى الموانئ، وتم توقيع اتفاق يسمح للبحرية الروسية بإقامة قاعدة عسكرية في مدينة بورتسودان الاستراتيجية المطلة على البحر الأحمر، تحتفظ بها موسكو لمدة (25) سنة تتجدد تلقائيًّا لمدة (10) سنوات أخرى؛ غير أن هذه الاتفاقية لم تدخل حَيِّز التنفيذ، وظلت بعد سقوط البشير محل أخذٍ وردٍّ، في مناورة مكشوفة يقوم بها جنرالات السودان بين روسيا والولايات المتحدة. وفي مجال التعدين حصلت شركة “إم إنفست” M-INVEST الروسية، على وصول تفضيلي إلى احتياطيات الذهب في السودان، وتم نشر أفراد من “فاجنر” في مواقع التنقيب عن الذهب، ومعظمها تحت سيطرة قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ “حميدتي”.([9])
وفي أعقاب سقوط نظام البشير اشتعل الصراع على السلطة بين القوى المدنية بكل توجُّهاتها من جهة، وبين القوى العسكرية من جهة أخرى؛ إلا أن كلمة المكون العسكري (المؤسسة العسكرية النظامية – الجيش السوداني- بقيادة عبد الفتاح البرهان)، والقوات شبه العسكرية المسلحة (ميليشيا الدعم السريع) بقيادة “حميدتي”) تفرقت، وخطَّط كلّ منهما للاستحواذ على السلطة، فاندلع صراع مسلح بينهما أوشك على تقويض ما تبقَّى من الدولة. وفي أتون هذا الصراع المسلح وجدت روسيا -على الرغم من حيادها المُعلَن- أن دعم “حميدتي”، يُحقِّق مصالحها في السودان، وهو ما أكدته جُلّ التقارير الغربية؛ حيث تحدث الكثير منها عن سلاسل الإمداد التي تقدّمها مجموعة “فاجنر” لـ”حميدتي” باستمرار عبر ليبيا وإفريقيا الوسطى، وهو ما قوَّى شوكة “حميدتي”، وعزَّز من قدرته على الصمود، وحدا به إلى رفض مساعي التسوية حتى الآن.([10])
موزمبيق: وأكبر مصدر للياقوت والغاز والتموضع على شواطئ شرق إفريقيا
يسمح الوجود في موزمبيق بالتموضع على أقصى جنوب شواطئ شرق إفريقيا، بالقرب من طريق الملاحة البحرية عبر رأس الرجاء الصالح، ومع ذلك كان العنصر الاقتصادي هو المُحرّك الأساسي للتوغل الروسي هذه المرة؛ حيث تتوفر موزمبيق على أكبر حقول الغاز الطبيعي في إفريقيا، وعلى أحد أكبر مخزونات الياقوت في العالم، ونظرًا لحداثة اكتشاف هذه الثروات، لم تَكُفّ الشركات العالمية العملاقة عن التنافس لنَيْل نصيبها منها، وقد مهَّدت البيئة الداخلية المضطربة في موزمبيق الطريق أمام قوات فاجنر الروسية، فالصراع العنيف -والمسلح أحيانًا- على السلطة، بين حزبي “جبهة تحرير موزمبيق” المعروف اختصارًا بـ “فريليمو” Frelimo، وحزب “المقاومة الوطنية الموزمبيقية” المعروف اختصارًا بـ “رينامو” Renamo، مستمر منذ عقود؛ فالأول يستحوذ على السلطة بصورة مستمرة منذ الاستقلال عام 1975م، والثاني يتزعم المعارضة من حينها.([11])
وعلى الرغم من توقيع اتفاق سلام بين “فريليمو” و”رينامو” عام 2019م؛ إلا أن هذا لم يمنع الرئيس “فيليبي نيوسي” Filipe Nyusi من الاستعانة بقوات من “فاجنر”، كحرس رئاسي بمناسبة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي أُجريت في ذات العام، وبعد فوز “نيوسي” توسَّع في استخدام “فاجنر” في محاربة المتمردين في شمال موزمبيق. غير أن “فاجنر” سرعان ما أخفقت وانسحبت جرَّاء ما أصابها من خسائر فادحة؛ حيث واجهها عدة صعوبات؛ أهمها: البيئة الموزمبيقية القاسية التي لم يعتادوا على القتال فيها، وعدم قبولهم لدى قادة وجنود الجيش الموزمبيقي، فضلاً عن تدخُّل قوات من رواندا، ومن “مجموعة التنمية لإفريقيا الجنوبية” المعروفة اختصارًا بـ “سادك” SADC، ونجاحهم في إخماد التمرد.([12])
مالي: الوصول إلى شواطئ الأطلسي، وجني ثروات طائلة من غرب إفريقيا
كان الوصول إلى شواطئ غرب إفريقيا، في طريق التجارة الأوروبية مع الغرب، وقبالة الشواطئ الشرقية للولايات المتحدة، من أصعب المهام التي خاضتها الخارجية الروسية، وخاصةً أن دول غرب إفريقيا تعد من مناطق النفوذ التقليدية بالنسبة للدول الاستعمارية الأوروبية، وبالأخص بالنسبة لفرنسا، غير أن عوامل مؤثرة مثل الفشل الفرنسي في مواجهة انتشار الإرهاب، والجريمة المنظَّمة، فضلاً عن تفشي الصراعات السياسية، والانقلابات العسكرية، أسهمت بدرجة كبيرة في فتح المجال نسبيًّا أمام الطموح الروسي.([13])
وقد اجتمعت كل هذه العوامل السلبية في مالي على مدار أكثر من (12) عامًا، وتضافرت جميعها حتى بلغ الصراع المسلح ذُروته، وبدأت الدولة تفقد سيطرتها على كثير من المناطق، وبات القائمون على السلطة في أمسّ الحاجة إلى دعم خارجي، فلم يجدوا أمامهم سوى العروض الروسية السخية. ومما يُذكر أيضًا من أسباب تعجيل وإصرار روسيا ومالي على مد جسور التعاون بينهما: أن موقع مالي الجغرافي في قلب إقليم غرب إفريقيا كان حافزًا إضافيًّا لروسيا؛ حيث يمكنها الانتقال من مالي إلى باقي دول الإقليم، وهو ما حدث بالفعل مع بوركينا فاسو. بالإضافة إلى أن نجاح روسيا نسبيًّا في تأمين النظام الحاكم في إفريقيا الوسطى، كان حافزًا إضافيًّا للنظام الانتقالي الحاكم في مالي، وهو ما مهَّد الطريق أمام قوات “فاجنر” لدخول مالي عام 2021م من المدخل الأمني والعسكري.([14])
ومن هنا اعتمدت روسيا بدرجة كبيرة على “فاجنر” في تقديم خدماتها العسكرية لمالي، بما في ذلك تأمين النظام الحاكم (أشخاصًا ومنشآت)، وتسليح وتدريب القوات النظامية، والاشتراك في عمليات مكافحة الإرهاب والجريمة المنظّمة. وبالجملة العمل على استعادة الأمن والاستقرار، كما أن العامل الاقتصادي كان حاضرًا وبقوة، في ملف العلاقات بين روسيا ومالي؛ حيث حصلت الشركات الروسية وبخاصة التابعة لمجموعة “فاجنر”، على حقوق الاستكشاف والتنقيب الجيولوجي والتعدين، ولا يخفى على المتابعين أيضًا، الدور السياسي الذي لعبته شركات “فاجنر” التكنولوجية والإعلامية، في الترويج للنظام الانتقالي في مالي، وللتعاون بينه وبين روسيا، فقد أمَّنت له بالفعل قاعدة شعبية عريضة.([15])
حقيقة تمرد قائد مجموعة فاجنر:
تعد حقيقة أحداث تمرد قائد مجموعة “فاجنر” متغيرًا مهمًّا، عند محاولة استشراف مستقبل الدور الذي تؤديه المجموعة في إفريقيا، ولا يَعلم الحقيقة كاملة سوى مَن دبَّر هذه الأحداث، وبالضرورة لن يفصح عنها على الأقل في المدى القريب.
ومن هنا تناثرت الآراء وتشعَّبت، لكنها تدور في مجملها بين ثلاثة سيناريوهات افتراضية، لا دليل معتبر على صحة أيٍّ منها؛ أولها: هو أن الأمر حدث بتدبير من الكرملين بالاتفاق مع قائد “فاجنر”. وثانيها أن ما حدث تم كسلوك منفرد قرر قائد “فاجنر” القيام به. وثالثها أن ما حدث تم بتدبير غربي بالاتفاق مع قائد “فاجنر”، وفي ظل حالة اللايقين السائدة، وبإمعان النظر في الأمر لا يمكننا تأكيد أو حتى ترجيح أيٍّ من هذه السيناريوهات.
مستقبل دور مجموعة “فاجنر” في إفريقيا:
لا تزال رحى التفاعلات التي أحدثها تمرُّد قائد مجموعة “فاجنر” تدور في سرِّية تامة، وفي ظل غياب الحقيقة لا يمكننا سوى التعاطي مع ما يتوفر من بيانات أو معلومات، ومنها ما هو يقيني، ومنها ما هو مرجح، ومنها ما هو غير موثوق.
ومن أهم المعلومات اليقينية أن وجود عناصر مجموعة “فاجنر” في الفضاء الإفريقي، كان ركيزة أساسية اعتمدت عليها روسيا في التوغل في القارة، وفي بناء علاقات تعاونية متينة مع عدة دول تحتل مواقع استراتيجية بالغة الأهمية، يستحيل أن تتخلى عنها روسيا طواعيةً في الظروف المعتادة.
ومن هذه المعلومات اليقينية أيضًا أن روسيا جنت من وراء وجود عناصر “فاجنر”، في عدة دول إفريقية مكاسب اقتصادية هائلة، يستحيل أيضًا أن تتخلى عنها روسيا طواعية في الظروف المعتادة.
ومن هذه المعلومات اليقينية أيضًا أن الدول الإفريقية التي استعانت بعناصر “فاجنر”، يصعب عليها أن تتخلى عنها، ما لم تجد بديلاً ملائمًا على نفس المستوى أو أفضل.
أما عن المعلومات المرجَّحة فمنها أن مجموعة “فاجنر” لا يمكنها مُواصَلة العمل في إفريقيا، من دون الدعم الذي تقدمه لها وزارة الدفاع الروسية.
ومن المعلومات المرجحة أيضًا أن القادة الأفارقة لن يمنحوا الثقة الكاملة لمجموعة “فاجنر”، بمعزل عن وزارة الدفاع الروسية.
ومن البيانات والمعلومات غير الموثوقة مغادرة مجموعة من عناصر “فاجنر” لإفريقيا الوسطى، في إطار عملية تناوب بين القوات، وهو ما أكَّده المتحدث الرسمي باسم الرئاسة في إفريقيا الوسطى.
ومن هذه المعلومات غير الموثوقة أيضًا ما صرَّح به وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” Sergey Lavrov، من أنه لن يتغير شيء في مالي وفي جمهورية إفريقيا الوسطى؛ حيث يساعد مقاتلو “فاجنر” هذه الحكومات في محاربة المتمردين.
ومن غير الموثوق به أيضًا ما نشره قائد مجموعة “فاجنر”، من أن الحكومة الروسية أرادت حل مجموعته.
وبتحليل هذه البيانات والمعلومات، في ضوء أهمية الدور الذي تقوم به مجموعة “فاجنر” في إفريقيا، سواءٌ بالنسبة لروسيا أو للأفارقة، وفي ظل غياب البدائل الغربية، يمكننا التأكيد على أن هذا الدور سوف يستمر، ولكنه قد ينكمش قليلاً أو يتباطأ نسبيًّا، إلى حين صياغته في إطارٍ جديدٍ؛ ما لم يكن هذا الإطار تم إعداده سلفًا لدى الكرملين.
أما عن الأُطُر الجديدة المتوقعة للقيام بذات الدور الذي تقوم به “فاجنر” في إفريقيا؛ فهي كثيرة، لكن أقربها للمنطق وأكثرها اتساقًا مع المعطيات الروسية والإفريقية يتمثل في:
الإطار الأول: أن يتم تأميم مجموعة “فاجنر”، ونقل قيادتها إلى موالين للكرملين، وهو خيارٌ مُستبعَد؛ لما قد يجرّه من تبعات سلبية على روسيا؛ نظرًا لتوغل “يفجيني بريجوجين” قائد “فاجنر” في السياسة الروسية، بما لا يؤمن معه جانبه.
الإطار الثاني: أن يتم حل مجموعة “فاجنر”، واستبدال شركات روسية أخرى بها دون تسوية مع قائدها، وهو خيار مُستبعَد أيضًا لذات أسباب استبعاد سابقه.
الإطار الثالث: أن تستمر مجموعة “فاجنر” كما هي في أداء دورها في إفريقيا، ضمن تسوية تتم بين الكرملين وقائد المجموعة، وهو خيار وإن كان غير مستبعَد، إلا أنه لا يتَّسق مع تطور الأحداث سواء كانت حقيقية أو مُدبَّرة.
الإطار الرابع: أن يتم استبدال عناصر أخرى بمن يرغب من عناصر المجموعة، مع إعادة هيكلة وتسمية المجموعة، ونقل ملكيتها لآخرين موالين للكرملين، ضمن صفقة موسعة مع “يفجيني بريجوجين”، وهو الخيار الأكثر ترجيحًا من بين ما سبق طَرْحه من أُطُر؛ وذلك بأنه يتسق مع افتراض كون التمرُّد حقيقيًّا أو مُدبرًا في آنٍ واحدٍ، كما أن يحقق مصالح جميع الأطراف، الكرملين، و”يفجيني بريجوجين”، والأفارقة، وعناصر المجموعة.
وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن عملية إعادة صياغة الدور الذي تقوم به “فاجنر” الروسية في إفريقيا، يحكمها العديد من المتغيرات المتداخلة شديدة التعقيد. ومِن ثَم قد لا تتطابق المآلات المستقبلية مع الأطر الأربعة المتوقعة سالفة الذكر تطابقًا تامًّا، لكنَّ المرجَّح أنها لن تخرج عن مضمونها.