ولد بلال يكتب /؟ مع رجل الدولة أحمد ولد محمد صالح، في الأوقات الصعبة ...

في مارس 1976 وصل معالي الوزير أحمد ولد محمد صالح إلى مطار النعمة على متن طائرة-تاكسي صغيرة تنسب لمالكها "گلواديك" في إطار جولة استطلاعية لمقاطعات الحدود الشرقية والشمالية: باسكنو، ولاته، تشيت، شنقيط، و ودان. وكان مرفوقا خلال هذه الجولة بشخصين فقط: حارسه الشخصي (شرطي) وصاحب هذه الصفحة. غادرنا مطار نواكشوط الساعة السادسة صباحا في وسط طقس متقلب وبارد جدا. قضينا رحلة ماتعة دامت زهاء ثلاث ساعات ونصف لم ينقطع خلالها الحديث بين الوزير وقائد الطائرة. بدا لي أن الصداقة بينهما قوية وعميقة. السيد "جاك گلواديك" تربطه بموريتانيا وشائج محبة ومودة راسخة. قدم لها خدمات لا تقدر بثمن منذ وصوله إلى مدينة "أطار" عام 1946 بصفته قائد طيران، حتى أصبح على التوالي مستشارًا ثم مديرًا للديوان العسكري للرئيس المختار ولد داداه، ثم مدير الطيران المدني، ثم مؤسس ومدير أول شركة طيران خاصة في البلاد (ترانس آيرج"). وأثناء حرب الأشقاء في الصحراء الغربية وضع خبرته التقنية العظيمة ومعرفته بجغرافية الأرض وتضاريسها ومناخها في خدمة قواتنا المسلحة. خاطر بحياته أكثر من مرة في مهام استطلاعات وبحث ومتابعة، إلخ.. وغادر إلى فرنسا بعد الانقلاب 1978، ثم عاد أولاده بجثمانه عملا بوصيته ليدفن في هذه الأرض التي أصبحت جزءا من مهجته و وجدانه.. كانت معظم أسفار وزير الدولة أحمد ولد محمد صالح، رحمه الله، تتم على متن طائرة "جاك گلوادك"، وفي حالات نادرة يسافر مع العقيد محمد واد اب ولد عبد القادر، كادير علمًا، رئيس الطيران العسكري الموريتاني.

حطت بنا الطائرة في مطار النعمة حيث وجدنا في استقبالنا والي الولاية الأولى: "كان تجاني" رحمه الله.. رجل بشوش، طويل القامة، أنيق في زيه الرسمي. وبعد مراسم الوصول وتأدية تحية الشرف من فرقة من الجيش، صافح الوزير أمناء الحزب ورؤساء المصالح الادارية ومنتخبي الولاية وكبار الوجهاء، ثم انطلقنا مباشرة من المطار إلى مدينة "باسكنو". كنت في سيارة مع مساعد الوالي، السيد "احبَلّه"، رجل طريفٌ ومرحٌ، حلو المعشر وسريع الألفة.. وصلنا المدينة حوالي الواحدة زوالا بعد سفر شاق وطويل. كان حاكم المقاطعة في استقبالنا مع فرقة من الحرس الوطني أدت تحية الشرف. فوجئت بغياب شبه مطلق لسكان القرية وأعيانها عن الاستقبال. قلت في نفسي: ما الذي يحدث؟

نزلنا في ضيافة السيد الحاكم، وتناولنا الغداء والشاي، ثم صلينا الظهر. وبعد ذلك مباشرة استدعيت من طرف الوزير ، وكان وحده في غرفة. قال لي: "أحب أن أجعلك في الصورة. إن الأمير سيدي ولد حننّه - وهو الآمر والناهي في هذه البلدة - يرفض الدخول على الحاكم في مكتبه ومحل إقامته بسبب خلاف بينهما. والحاكم - طبعًا - يرفض الانتقال إلى سيدي، وهو محق في ذلك. والنتيجة أنهما لا يلتقيان منذ فترة.. هذه إشكالية كبيرة يطرحها واقع مجتمعنا ومستوى العقيلات، ولا بد من التعامل معها بحكمة وحنكة وتبصر. هذا الرجل - سيدي ولد حنن- له تاريخ مشرف مع الوطن ومع مشروع الدولة. لقد وقف في وجه "اتمَوْلِيّ" عندما زاره رئيس الجمهورية وأنا معه. ورفض التعامل مع جيش التحرير..وهذا الأمر اليوم شائك فعلا.

كيف لنا اليوم أن نخاطب السكان؟ هم لا يستطيعون القدوم علينا إلا إذا أمرهم سيدي بذلك. ونحن لا نستطيع الانتقال إليهم إلا إذا تخلينا عن هيبة الدولة. فإذن، لا بد من حل.

قلت له: وما رأيكم في بناء خيام في وسط المدينة أو في مكان محايد؟ فأجابني بنبرة قاطعة: لا! ذاك سيعني انتقال الدولة من مكان إلى مكان.. أعتقد أن الحل سيكون في "الطلحايَ". وأردف قائلا: أرى أن هذه شجرة الطلح الظليلة الواقعة داخل الحائط هي جزء من سكن الحاكم. وظلها بعد العصر يمتد خارج حائطه. أمرتُ الوالي والحاكم بأن يضعوا مقاعد وطاولات مغطاة بالعلم الوطني تحت ظل الشجرة وندعو للاجماع هناك. هكذا سنكون داخل المنزل صيانة لسلطة الدولة، وخارجه إرضاء للأمير سيدي. وبهذه الطريقة، تمكن الوزير أحمد من عقد اجتماعه بنجاح وتوصيل رسالته، ولم يخرج من باسكنو منتصف الليل حتى حقق المصالحة بين الادارة والامارة .. وساد جو من الارتياح والانشراح. وخرجنا من باسكنو وفي مسامعنا صوت الزغاريد وطلقات الرشاشات.

محمد فال ولد بلال

9 January 2022