من أجل حوار وطني لا بيع فيه ولا شراء ولا ترضية (ح: 2)

محمد محمود ولد بكار/ هناك، في الدولة، موضع ألم كبير حملته لنا النشأة ، يفرض علينا قوانينه الأكثر ثقلا، لكننا نتمادى في الاستخفاف بها مما يهددنا بمزيد من المخاطر . وهكذا يكون الحوار البنّاء ضرورة ومناسبة لتخفيف ثقل ذلك السقف الكبير الذي نحمله فوق رؤوسنا والذي يزداد ثقله يوما بعد يوم وينذرنا أيضا بالسقوط، وحدها المراجعات الكبرى ومراكمة الاصلاحات هي ما يمكن أن يمسك البناء كي لا يزول .

صممت الديمقراطية الموريتانية، التزاما بوضعنا الاجتماعي، خاصة استمرار تأثير النهج القبلي ومستوى الأمية والأبعاد الأخرى، على قرائتين للقانون من خلال غرفتين، آخذة في الحسبان المساحة الكبيرة التي ستحتلها القبائل والأمية في التمثيل في الانتخابات البرلمانية والمحلية. الأمر الذي قد يحمل أشخاصا تنقصهم الخبرة والالتزام إلى البرلمان مما سينعكس بالطبع على الأداء، ويجعل المنحى التشغيلي المتدهور أكثر انحدارا، وهكذا قرر المشرع غرفة عليا لضمان قراءة ثانية للقوانين أكثر مهنية وعلميّة من خلال إنشاء مجلس الشيوخ الذي يترشح له في العادة متقاعدون وأطر سامون ومثقفون، تاركا لمجلس النواب تلك المساحة التي تأتي بنواب أميين أو غير مؤهلين بالكفاءة اللازمة للعمل البرلماني. لقد قضى الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، في لحظة غضب، على عمق هذه التجربة من أجل الانتقام من أشخاص بعينهم دون أن يلتفت لحجم الخسارة التي سيلحقها ذلك بديموقراطيتنا.

لقد انتقلنا إلى برلمان من غرفة وحيدة دون الأخذ بالاعتبار زيادة تأهليه ليتحمل الحلقة المفقودة مع حل مجلس الشيوخ ، وكانت التجربة البرلمانية- عهدة بعد عهدة- أسوأ بسبب ضعف الأداء السياسي للنخبة وللأحزاب، وتعاظم الطرح القبلي والجهوي والشرائحي والعرقي داخله، واستيلاء حجم كبير من الغوغاء وغير المتعلمين على مقاعد عديدة فيه من الذين لا يعيرون انتباها للدور وللمسؤولية الملقاة على عاتقهم أو -على الأصح- لا يميزون ذلك. وهكذا شاهدنا تفاهات يطلقها متحدثونً لأنهم ليست لديهم سياسية حقيقة يصفونها.

هذه الوضعية الكئيبة والدفاعية الخاملة لا تناسب برلمانا يطلب منه عمل الكثير بشأن الرقابة على الحكومة، ودعم مبادرات الحكامة والانسجام، ومحاربة الفساد، وإصلاح القضاء. والالتزام بالديمقراطية كخيار استراتيجي للبلد. وهكذا يتعين علينا أن نأخذ إصلاح وضعيته في المستقبل لكي يغلب عليه طابع المسوولية والالتزام بمصالح الشعب والكفاءة ، ولكي لا نكرر تجربة البرلمان الأسوأ بالنسبة لكل البرلمانات الماضية الذي تغلب عليه الغوغاء والتجار والتطرف والمال السياسي والمحاصصة، وتظهر فيه تحالفات مسمومة ومهزوزة تروج لأمور غير اعتيادية. إننا لا نتوقع أي مبادرة من داخل البرلمان، ولا أي تقويم أو تصويب علمي وتقني لعمل الحكومة. صحيح انها مساحة حرة للصراخ، وكثيرا ما يخرج ذلك الصراخ عن سياق الأدب وعن قبة البرلمان ليملأ الشارع ويضيف رهانات أمنية واحتكاكات مثيرة للريبة مع قوة الأمن باسم برلمانيين. وهذا يحتم التفكير في إصلاح البرلمان خاصة من حيث شروط الولوج إليه، فلابد أن يكون للخبرة والتعلم والمسؤولية والالتزام نصيب في التزكية لدخول البرلمان. الأشخاص الذين لا يملكون مؤهلات ولا خبرة، لا يملكون عملا يؤدونه لمصلحة الشعب خاصة إذا كان قراءة القوانين وإصلاحها أو اقتراح تشريعات جديدة .

وفي هذا السياق تتعين العودة للترشحات المستقلة من أجل إطلاق مزيد من الخيارات أمام الشعب، وبوصفها تمثل لونا سياسيا وجمهورا عريضا يملك طموحا مشروعا، ولا ينتمي للأحزاب السياسية، ويملك الكفاءة، ويملك الحق في الترشح، كما أنه أيضا إصلاح مسار معوج من المتاجرة الحزبية بالمناصب الانتخابية. إننا، من خلال ذلك، سنعيد الوضع السياسي للأحزاب على حالته الأولى من خلال العودة لأساليب التقليدية للمنافسة والمعركة السياسية من خطابات وبرامج وتحسين الأداء والالتزام بمطالب الشعب، لا عملية بيع ولا شراء للذمم وبيع فرص الترشح .كما يجب -وهذا أكثر تحتّما- تقليص وزن القبيلة والجهة والشريحة كمحاصصة. لابد من تجاوز هذه العقدة من خلال البحث عن الأصلح ولو كان من أسرة واحدة أو اتنية واحدة أو شريحة واحدة، فالأساس الأول هو الكفاءة والالتزام بقوانين العمل .

إن الأحزاب تقع في هرم البنية الوظيفية للديمقراطية، بل إحدى ركائزها الأساسية كآلية انتخابية، وأيضا كمدرسة سياسية فكرا وعملا، ومن خلالها يستلهم المواطن الترابط بين الحقوق والواجبات، وبين الحرية والمسؤولية وغيرها من جدليات الديمقراطية. وعكس ما يجب، لم يكن هناك دور حزبي بالضبط في هذا المجال. وفي مفارقة عجيبة -وحرصا منها وهذا ماتم التبرير به- قامت الأحزاب بتضييق هامش الديمقراطية بمنع الترشحات المستقلة، وبأن تظل الترشحات من داخلها ،لكنها للأسف لم تستفد بذلك رفع مستوى التحزب، بل شرعت عملية تجارية مخلة بقواعد الديمقراطية والنزال السياسي ونقلته من صراع برامج وأفكار وسلافة خطابية إلى متاجرة بالمال .

كما أن الأحزاب تسعى أكثر للحديث للسلطة لا للشعب، حتى وإن كان باسمه. وهكذا أيضا بني الخطاب على المطالب السياسية الحزبية وفي الأخير لسلافته . صحيح أن المعارضة إن كانت ضيعت كثيرا من الوقت في معارضة كل شيء والاشتباك مع الأنظمة على حساب العمل الجماهيري ،أضافت بذلك إصلاحات مهمة على الديمقراطية (الانتخابات وتوسيع مجال الحريات وغيرها) وليس على الممارسة ولا على عدم و عي الشعب بحقوقه وواجبته وبالارتقاء بالفعل السياسي ، كما نسيت أيضا نفسها من تلك الإصلاحات. إن الوضع الحزبي بصفة عامة، يظل سيئا وجامدا وغير فعال طيلة الفترة التي لا توجد فيها انتخابات، بل يظل يحبس أنفاسه إلى الانتخابات حيث ينقسم لتيارين: أحزاب مسؤولة وضعيفة تسعى بوضع شروط مسبقة على المشاركة في الانتخابات للحصول على تنازلات أو ضمانات معينة من النظام من أجل سد الرمق من الأصوات بفعل تلك التنازلات مرات بالنسبية ومرات بمنع الترشحات المستقلة ومرات بإخضاع اللجنة المستقلة لارادة الأحزاب ومرات بإعادة التقطيع الانتخابي وأحزاب مجهرية صنعت من وحي الأمثلة لا تملك خلفية ايديولوجية ولا سياسية ناصعة، وهي التي تعج بها الساحة، وهي التي تزهو وتزدهر في موسم الانتخابات بسبب المتاجرة بالذمم وبمقاعد الترشح. لقد صارت مدرسة لأصحابها في التعرف على مصالحهم الذاتية، فلم يستفد المواطن منها في ممارسة الديمقراطية ولا حتى في الخروج من عباءة النظام حيث تجمع له أغلبية مضاعفة. وبصفة عامة لم تقدم الأحزاب اي مثال من نفسها فيما تدعو له النظام من التناوب، ولا اي ديناميكية تدعم الخروج من نفس النسق. إنها في الغالب الأعم تعطي الكثير من الدروس بالمقلوب خاصة بالنسبة للمعاني الكبرى. وهكذا لم نشهد ترقية للممارسة الديمقراطية لدينا .كما لا يدعم التطرف أي فكرة سياسية يمكن أن تتجاوز قلة من الشعب ليست مستعدة للتعلم من دروس الديمقراطية وليست قادرة على تغيير البلد، لكنها تراهن على حرقه .

إن هذا الوضع يجعلنا امام واقع خطير على اعتبار أن الأحزاب هي الآلية الأولى للديمقراطية. ولهذا يكون إصلاحها (فكرا وعملا ) هو المدخل الإجباري للتأسيس. وهكذا يتوجب التفكير من داخل الأحزاب نفسها في خلق إطار قانوني يفرض التناوب على القيادة ويحولها لمؤسسات سياسية عمومية مفتوحة للنبوغ والأحقية والشخصية والكاريزما، لا أن تظل ملكيات فردية . إننا في البلد نستنشق حب الأثرة والسلطة والنفوذ ونخرق القوانين قبل أن نؤسسها .فالأحزاب جزء من المجال العمومي، تحظى بحماية القانون وفرص الوصول للسلطة ولمراكز التشريع، وتستفيد من دعم الخزينة دعما لمهامها الوطنية، وليست عملية وقفيّة على أشخاص أو أسر. إنها ضمن ديناميكية البناء والإصلاح والتطور، فلابد من كسر عملية الاحتكار وفتح الفرص للجميع لكي لا يضطر كل شخص لإنشاء حزب جديد. إننا بهذا ندعم الفردانية والتطرف من أجل كسب الشعبية .

إن على الأحزاب - امام هذه الفرصة حيث توسع اشتراطات الحوار- أن تدمج فقرات تتعلق باصلاحها، وهو امر تعترضه عقبة كبيرة، فالمفارقة عجيبة أن الأحزاب التي تريد إصلاح البلد وتقويمه ترفض إصلاح ذاتها حتى عندما يكون ذلك الزاميا لإصلاح الديمقراطية نفسها .

إن المسألة الأخيرة في هذا المقال تتعلق بشروط ممارسة السياسية والإعلام بالنسبة للأشخاص خاصة من يصلح في وصفهم "ملهمين" أو "حاملي أصوات" أو "صانعي محتويات" أو "مؤثرين" و"زعماء"، فقبل أي شيء لابد من الالتزام بالقانون والمساطر المسيرة لهذه الدولة وسيادتها ومرجعيتها بالنسبة للمصطلحات والمفاهيم ومفردات الخطاب السياسيي. إنه شرط أساسي لكل من يلج المجال العمومي ويعرض أفكاره على الناس .وهذا يعني الخضوع لمقتضى الدستور. لكننا في هذا الوضع أمام متلازمة خطيرة: حرية مفتوحة على مصراعيها بشكل يزداد خطورته على الانسجام وعلى القيم والأخلاق والثوابت والمرجعيات، وفي الوقت نفسه رفض الانصياع لمقتضيات نفس الدستور الذي منح تلك الحريات في تنظيم المجال والإطار وضبط الاخلاق والمفردات والأهداف، لكي تكون نعمة على المجتمع لا نقمة عليه . وهكذا يتطلب الأمر الدخول إلى الاطار المفاهيمي للعملية السياسية والتواصلية في البلد برمتها: مفهوم الوحدة الوطنية، مفهوم الحرية، مفردات الخطاب السياسي، حدود استخدام التواصل الاجتماعي …

إننا نسجل ضمن هذه التناقضات وقوف بعض الشخصيات السياسية بشكل سافر ضد مواد محصنة من الدستور مثل سيادة اللغة العربية على المجال المعرفى والإداري والتعليمي وعلى التواصل والثقافة، حيث تظل المسألة جوهرية أكثر من مجرد اعتراض سياسي خاصة بالنسبة لمن يسعى لاستغلال وسائل الحرية من أجل الحصول على منابر شرعية للدعاية والناخبين لكي يمنع الشعب من التواصل ومن بناء نفس مشاعر الانتماء للتاريخ المشترك واللغة المشتركة والحاضر والمستقبل. إن أي شخص يملك هذا المستوى من إنكار القواسم المشتركة لهذا الشعب، وأدوات اللحمة الوطنية، وبناء المستقبل بيد واحدة، لا يمكن أن يطالب ويستفيد من الوسائل المشروعة لكي يدمر البلد، و لا الولوج للقوة العمومية، ولا مراكز الإلهام، ولا الزعامة، ولا يستفيد من القانون بالنسبة لمساحة العمل السياسي والنفاذ على عقول الناس.

إن العمل الذي يتوجب القيام به اليوم هو نقل المواد المحصنة في الدستور إلى القلوب، ومن ثم إلى الممارسة لكي نحمل نفس المشاعر للوحدة والانسجام ونؤمن بنفس أهداف الإصلاح والتغيير الذي يجب أن يستفيد منه الكل، خاصة من يعيش على هامش التحولات والتغييرات والإصلاحات، والذي يجب ان يكون مركز الاهتمام في هذا الإصلاح من أجل وئام مديد. وهكذا نكون بحاجة لحوار جاد لحسم ثلاثة مراكز أساسية لديناميكية الشطط والخطر على مستقبل البلد .

يتواصل

28 May 2025